لماذا فؤاد مخزومي ؟
لماذا فؤاد مخزومي ؟
بقلم: الدكتور جورج شبلي*
لطالما سمعَ لبنانُ بأُذُنٍ، وأغلقَ الأخرى، فَصُوِّمَ عن الحقِّ الذي لم يَحصدْ من بَرَكاتِهِ ما يَجعلُه قادراً على طَيِّ صفحاتِ الإنحطاط، هذا الذي كانت له الغَلَبَةُ المُطلَقَةُ في الدولة، فأُزهِقَت، بممارساتِ أركانِها المُتَسَلِّطينَ الجَهَلَة، تباشيرُ الصَّحوةِ، وفرحُ الوجود.
أمامَ تَهالُكِ مفهومِ السّلطةِ، في لبنان، خصوصاً في خِضَمِّ دراميّةِ التّأليفِ المُتمادِيَة، وأمامَ سقوطِ مشروعِ قِيامِ الدولة، ما أَنذَرَ، ولَمّا يَزَلْ، بعودةِ الوطنِ الى زمنِ العشائريّةِ المُتَخَلِّفَة، والتَشَظّي المُجتَمَعي الحادّ، واستِعمارِ المُستَقوينَ بفائضِ القوّة، كان لفؤاد مخزومي، وهو السياسيُّ المُتَمَرِّسُ، والوطنيُّ العَريق، والرؤيَويُّ البارِع، مُشاركةٌ في صرخةٍ، للنُّهوضِ من مهنةِ بناءِ الموتِ، الى احترافِ بناءِ الحياة.
فؤاد مخزومي النقيُّ في انتمائِهِ اللبنانيِّ، فِكراً وممارسة، هو ابنُ الحضارةِ والفَرح، الخارجُ من رَحِمِ الثقافةِ الوطنيّةِ المَنسولةِ من تَرصيعٍ لا يَحوكُهُ إلّا المُوَجَّهونَ ببوصلةِ الجرأة. إنّ هذا المُتَماهيَ مع الولاء، ومع نِظامِ العَقلانيّة، والمؤمنَ بسلطةِ الحريّة، والمُبتَعِدَ في مَدى الإعتدالِ، والطّيبة، والخدمة، لم تكنْ وطنيّتُهُ، يوماً، هيكلاً مُستعاراً، كغيرِه، حتى يَخلَعَ التزامَهُ في زمنِ الغَزوِ، يومَ عَبَثَ أحفادُ هولاكو بالوطنِ، ومزَّقوه، ولا يزالون.
من مَداميكِ سلوكِ فؤاد مخزومي، السّعيُ لاستعادةِ لبنانَ من تشقُّقاتِ كيانِه، وإِحياءُ هذه الجنّةِ المَفقودةِ بالتَّوافقِ على نظامٍ قانونيٍّ يُنهي مآسيَ التَشَقُّق، ويَجعلُ الوطنَ واحَةَ سلامٍ، تَسعى الى التَّقدُّمِ الفِعليّ. هذا الطَّرحُ يعني، تماماً، قفزةً نوعيّةً في مشروعِ تعاونٍ صّادقٍ لإيجادِ بَديلٍ للمواجهاتِ القاتلة، والإختلافاتِ الخَطيرة، من خلالِ الإيمانِ بالوطنِ، دونَ سواه، والسَّعيِ الحثيثِ لتَبَنّي مُبادراتٍ تُعَزِّزُ قيامَ الدولةِ ذاتِ السّيادة، والضّامنةِ لِحقوقِ أهلِها، ما يؤَدّي، حتماً، الى تَطَلُّعِ الجميعِ في اتّجاهٍ واحد، لاستعادةِ ثقةِ المواطِنِ بوَطَنِهِ، مَجالاً رَحباً، آمِناً، لتحقيقِ ذاتِهِ، ومستقبلِ أجيالِه.
من مداميكِ قناعةِ فؤاد مخزومي، ومن صُلبِ نِضالِه، الإلتزامُ بالثّوابتِ الوطنيّةِ، وفي طليعتِها مفهومُ المُواطَنةِ الذي يَستندُ، دائماً، الى مَبدَأَي الإنتماءِ والولاء، ما يَستَتبِعُ، حُكماً، التَّشَبُّثَ بالسّيادةِ الوطنيّة، وحريّةِ تقريرِ المَصير. إنّ ما يَدعمُ هذينِ المبدأين، هو الدّفاعُ عن الحريّة، وتأمينُ العدالةِ، من خلالِ المُشاركةِ السياسية، وتَداوُلِ السّلطةِ بعَدل، وذلك بالعودةِ الى ما تقتضيهِ الديمقراطيّة، وبِهذا، فقط، يُوضَعُ مشروعُ الدولةِ على نارٍ جديّة.
إنّ النظامَ الديمقراطيَّ الذي دافعَ عنه فؤاد مخزومي، هو المساحةُ الوحيدةُ التي تُمكِّنُ مُؤَسساتِ المجتمع، أنْ تُمارسَ الحقَّ في تأسيسِ مُواطِنٍ واعٍ، لا يتنازلُ عن مُثُلِهِ، ما يستدعي نقلةً نوعيّةً لِجهةِ المُستوى الذي يَجِبُ أن يتمتَّعَ به المُشتغِلون بالسياسةِ، فلا نعودُ نُواجِهُ طُغاةً، أو عُشّاقَ سُلطةٍ مُتَخَلِّفين، أو مُناوِرينَ مُنافِقين، بل طبقةً راقيةً تُنشِئُ دولةً تتكلَّمُ، وتَعقُلُ باسمِ الشّعب. وما ذلك سوى موقفٍ جريءٍ يرفضُ أولئكَ الذين عملوا، منذُ عُقود، بوصايتِهم المَشبوهةِ والمُستقويةِ، على نَشلِ الدولةِ، وأدخلوا البلدَ في تَشابُكيّةِ السّياقِ الإقليميِّ بكلِّ تَعقيداتِهِ، وتداعياتِهِ القاتلة التي أمعنَت في تمزيقِ الكيانِ، والهويّةِ، وهزَّت صورةَ المؤسّسات، وفرضَت استعماراً جديداً بِفَرطٍ منَ الظّلمِ، والتَّرهيب.
لماذا أنتَ؟ لأنّكَ أردتَ أن تُعلِنَ أنّ لبنان لا يُبدي خدَّه لِمَن اتَّفق، فشروطُ ” اللبنانيّةِ” حادّة، وأهمُّها أنّ مَن طاوَعَها بلا خيانة، فلَهُ، معها، لقاءٌ فَرِحٌ بلا مَوعِد. لماذا أنتَ ؟ لأنّكَ واجَهتَ، بجرأةٍ قياسيّة، أصحابَ اليَباسِ في وليمةِ الغدر، أولئكَ الملَوَّثينَ الذين لا يَخرجدُ منهم إلّا الشرّ، والذين يريدون قتلَ الحريةِ في مَنابتِ العلاقةِ الكيانيّةِ مع الأرضِ والكرامة. لماذا أنت ؟ لأنكَ، في مواقفِكَ الوطنيّةِ الفائقةِ الجرأةِ والصِّدق، كنتَ مثلَ الخيطِ المَثلوثِ الذي لا ينقطعُ بسهولة. لماذا أنتَ ؟ لأنّكَ المؤسَّساتيُّ المُتَمَرِّسُ، صاحبُ الفكرِ النَّابِه، والعامِلُ على تَوثيبِ مؤسّساتِكَ، والوطن، الى الرقِيّ، مُشيراً، دوماً، الى القِمَم. لماذا أنتَ؟ لأنّكَ المُخَطِّطُ الناجحُ بعقلانيّةٍ، فلم تتعثَّرْ منهجيّتُكَ معَ الطّروحاتِ، لأنها لم تكن، يوماً، سطحاً بدونِ عمق. لماذا أنتَ؟ لأنّك، في زمنِ المآزِق، زمنِ استشراءِ الفسادِ الذي صَهَرَ الناسَ في أَتونِ الجوعِ والفقرِ والإستبداد، لا زلتَ تقترحُ مَدارجَ بعيدةً ليتنفَّسَ الوطنُ تَقَدُّماً.
فؤاد مخزومي، لقد خافوا منكَ، لأنكَ منفتِحٌ بِنقاء، ولأنكَ الأَقوى، فحجَتُكَ أكثرُ فَتكاً من سُمِّهِم، وأيمانُكَ أشدُّ تَحصيناً من أَصنامِهم، وجرأتُكَ أصلبُ من غَدرِهم، وجبانتِهم.
فؤاد مخزومي، نريدُكَ لأنَّ الولاءَ، معكَ، هو عِتادُ الوطنيّة، وأنتَ متأهِّبٌ، دوماً، للنِّزالِ في سبيلِه. نريدُكَ، لأنّنا نريدُ إنقاذَ لبنان، أو ما تَبّقّى منه. نريدُكَ، لأنّنا مقتنعون بأنَّ مَنْ يَجرؤ، كما فعَلتَ وتفعَل، فإنّه يُساهمُ في القضاءِ على نَسْلِ الشياطين… وما أكثرَهم عندَنا.
— بقلم الدكتور جورج شبلي، دكتور في الفكر الإستراتيجي _ باحث أكاديمي.